هزاع البراري - يعد الشاعر والفارس نمر العدوان، صاحب ثورة إجتماعية وفنية في الوقت ذاته ، فلقد تمرّد على السائد الراسخ على نطاق العشيرة و تعداها ليشـمل المنطقة الأكبـر - البلقاء وما جاورها - تحمّل على كاهله كل تبعات التغيير حيث وجه بالرفض وبالإدانة والتشكيك أيضاً، فلقد تفرّد بالعلم والمعرفة، عندما كانت البلاد العربية تغط في الجهل المفروض عليها، بإعتبارها هامشاً للدولة للتركية ، واستطاع من خلال دراسته وما حصّله من علوم باللغة والدين وغيرها، من قيادة فعل ذاتي لتغيير وتحسين ما إعتادت عليه القبيلة، من أجل واقع أفضل خاصة ما يتعلق بإحترام المرأة وتقدير دورها ، وما أحدثه من تطوير لافت في القصيدة النبطية السائدة والمؤثرة في المجتمعات البدوية.
ترجّح الروايات أن نمر بن العدوان ولد سنة 1735م وذلك بالنظر الى تاريخ وفاته والفترة التي عاشها مع زوجاته ، وقد عاش يتيماً حيث توفي والده قبلان العدوان ونمر في بطن أمه ، ولأن البدو كانوا يعجلون بالزواج من الأرملة حفظاً لها ولذريتها ، فقد تزوجها بركات شقيق زوجها السابق قبلان ، و نسب نمر الى عمه بركات، حتى لا يشعر الطفل بالفقد واليتم ، وكان اسمه عندما ولد (عبد العزيز) قبل أن يتحول إلى اسمه الذي عرف به وذاع صيته من خلاله ، فجاء اسم( نمر) مرتبطاً بقصة ثبتت صحتها عند بعض الرواة ، وهي ان والد نمر وربما يكون عمه بركات قد رأى حلماً هاجمه فيه اعداؤه ؟، لكن ظهر فجأة نمر وفتك بالاعداء وخلصه من بين أيديهم ، فلما اخبر زوجته بالحلم، فرحت وبشرته بانه سيرزق بولد ذكر ، ويقال ان اسم نمر الذي حل مكان اسمه الاول -عبد العزيز- يعود لهذه القصة إن صحّت الرواية، ومن المحتمل ان الاسم الجديد هو صفة أطلقت عليه فحلت محل الاسم ، خاصة ان الطفل عرف عنه الذكاء والشجاعة الكبيرة وعزة النفس ، وكان يتفوق على اقرانه من خلال لعبة المباطحة التي تشبه الى حد ما المصارعة الرومانية اليوم ، وهي تقوم على مبدأ الإطاحة بالخصم أرضاً دون استعمال العنف او الضرب ، وصفة النمر تتفق على ما عرف به نمر العدوان في طفولته وشبابه وكهولته من شجاعة وإقدام .(روكس بن زائد العزيزي)
ويبدو أن نمر الإسم والصفة والمكان والحيوان، كلها كانت تتداخل في تفاصيل حياة هذا الشاعر النبيل ، فقد مر نمر العدوان من منطقة يقال لها هيشة وهي محمية من قبل نمر حقيقي، فكان أن واجهه نمر العدوان وطعنه بالسيف وسلخ جلده، و في تحدٍ ثانٍ واجه نمر العدوان نمراً آخر وأرداه ببندقيته المسماة إمغيظة ، وهذا أكد صفات الشجاعة والفروسية التي تحلى بها . ويقال أن غور نمرين سمي إشارة لقتل نمر العدوان للنمر الذي عاش هناك.
يعتبر نمر العدوان محظوظاً، فلقد التقى في صغره بالمستشرقة الفرنسية التي جاءت بصحبة عدد من السياح ومترجم من القدس ، وقد أعجبت بالطفل نمر، وأحبته لسماته الخاصة وذكائه المتفرد ، فأقنعت أهله أن يسمحوا لها بإصطحابه إلى القدس ليتعلم القراءة والكتابة ، فكان لها هذا بعد جهد ، فأمضى خمس سنوات وهو يدرس ويحظى برعاية هذه السيدة التي تبنته تقريباً ، وساعدته للذهاب إلى مصر ليكمل دراسته في الأزهر، في وقت كان الأزهر عبارة عن مدرسة غير نظامية ، وأمضى في الأزهر مدة تعادل ما قضاه في القدس ، عاد بعدها الى دياره الأردنية ، وكان يكثر من قراءة القرآن ، ويبدو أنه تأثر بشعر المتنبي ، وكانت عودة هذا الشاب مسلحاً بالعلم والإبداع الشعري والمكانة الإجتماعية مثار لحسد الكثيرين وغيرتهم.
كان نمر محباً للصيد والخروج إلى البرية ، وهو شاعر موهوب ، لديه حس مرهف وعاطفة متقدة، إنعكست كلها في شخصيته وشعره الخالد، الذي أعد فتحاً جديداً للشعر النبطي ، حيث كان شعره مختلفا، يعبر عن ثقافة ورقة صاحبه ، ونظرته الجديدة للحياة والعادات والتقاليد ، وكان عازفاً عن الزعامة وزاهداً بالمناصب العشائرية ، محباً للحرية والحياة البرية .
ولعل ذلك مهد للقائه بالمرأة التي جعلها الأشهر في البادية العربية ، فلقد التقى بوضحى السبيلة التي خطفت قلبه ، فتزوجها غير مبالٍ بمقالة الحساد والمعارضين، الذين استغربوا زواجه من خارج بنات العشيرة ، وقد زاد عندما أنزل نمر العدوان وضحى المنزلة التي تستحقها كإمرأة وزوجة ، فقدّرها وحفظ كرامتها، وجعلها في مرتبة لا تقل عن مرتبة الرجل ، في زمن ظلمت فيه المرأة وبالذات الزوجة ، حتى أن الرجل لا يجوز أن ينادي زوجته بإسمها ولا أن تجاريه في المسير ، ولا تأكل مع زوجها ، وأعتبر ذلك خرقاً لكل ما تعارف عليه أهل البادية ، وصارت الغيرة تأكل قلوب النساء والرجال ، لكن نمر المتعلم تحمل كل ذلك في سبيل تغيير ما هو واقع بصبر وأناة.
لم تكن علاقته بزعماء قبيلته على وتيرة واحدة ، مع أنه يعد زعيما زهد بزعمته ، وفروسيته أنقذت العشيرة أكثر من مرة ، لكن الإختلاف الذي شكّله هذا الشاعر جعله مثار تساؤل ورفض أحياناً ، ولكونه لا يسعى للصدام ويؤثر قبيلته على نفسه ، فإنه غالباً ما كان يرتحل بعيداً عن المشاكل ويختار الإغتراب على مواجهة جور القريب ، وفي هذا نبل الفرسان ورقة الشعراء الأفذاذ.
كان لوفاة زوجته وضحى أثر بالغ في نفسه ، بل أن حياته التالية كادت تكون تذكّرا لها ، ومحاولة للبحث عن من يشبهها من النساء فلم يجد، فعصر قلبه الألم وعشعش في شعره الحزن والحنين ، فرفيقة دربه التي عاشت معه قرابة العشرين عاماً من خلال قصة حياة تشبه الأسطورة، تفارق الحياة بسبب الحمى أو الكوليرا بحسب الروايات ، وحدث ذلك خلال غيابه ، فعندما عاد ، وقد تلبسه هم وحزن مفاجىء، يصدم برؤية نعشها السائر نحو قبرها ، فأدرك أن الفاجعة أكثر مما ستحتمل سنواته القادمة ،وقد بدأت مرثيته المعروفة من هذه الحادتة، فرغم زواجه بأكثر من امرأة بعدها إلا أن الفقد الذي خلفته في نفسه جعله يعيش غريباً مكلوماً ، فلم يجد ضالته أو ما يسري عنه في أي منهن ، فهو لم يجمع أكثر من زوجه واحدة في الوقت نفسه ، ويقال انه تزوج ب(وطفا) شقيقة وضحى ، وصيته ، والجازية ، المرجع السابق ، ومنهم من قال انه تزوج نساء اكثر من ذلك. إمتاز نمر العدوان بفروسية ونبل، جعلته مثار إعجاب مجايليه وإلى يومنا هذا، فهو رمز الشجاعة والكرم والحب والرقة ، وهو شاعر كبير تجولت أشعاره على ألسنة الرواة والناس، وكان أول من تنبه له المستشرقين الغربيين ، وقد ترجمت العديد من قصائده إلى اللغات الأجنبية ، ففي العام 1860 م قام قنصل بروسيا في دمشق بترجمة إحدى قصائده إلى الألمانية ، وترجم له مستشرق أمريكي أشعاراً مختلفة ، وإهتم بالترجمة له أيضاً كاهن إيطالي عام 1914 م ، لكن ترجماته فقدت بعد إستيلاء الأتراك على دير اللاتين في مادبا ، وقاموا بترحيل الراهب إلى القدس المرجع السابق . وقد دل إهتمام المستشرقين بشعر نمر على إعجابهم بشخصه وشعرة، وللمكانة التي كان يحظى بها في قلوب أبناء البادية العربية ، حتى صارت حياته وصفاته مضرب المثل ، وصارت قريبة في بنيتها من الأسطورة الشعبية.
كبر نمر وقارب على الثمانين من عمره ، لكنه كان يثب على ظهر فرسه كالفتى القوي ، ويشارك في الصيد والمعارك ، حتى أقعده المرض ، وأتعبته الحمى ، وأدرك أنها النهاية لا ريب فيها ، فقامت على رعايته زوجته الجازية التي كان يناديها في ساعات الحمى بـ وضحى ، فترضى ولا تحتج ، ولما إقتربت الساعة أوصى من حوله أن ينقشوا على قبره هذه الأبيات: تنقلك المنايا من ديارك وتحطك بديار غير دارك دود القبر يرعى بعيونك واعيون الناس ترعى بدارك ماتقدر ترد الدود عنك إو لاتحرز تحامي عن ديارك
وتوفي الشاعر الفارس بحسب ما أخذ عن النقش على شاهد قبره في ياجوز سنة 1238 هجري الموافق 1823م ، ودفن في ياجوز وما زال قبره ماثلاً ، وشاهداً على رجـل كان بأمّة ، ومثّلت حياته بكل ما فيها من جديد وغريب، مرحلة كاملة قلّما تجود الأزمان بما يشبهها.